مفهوم الحقيفة





مفهوم الحقيقــــة في الخطاب الفلسفــــــي







الدكتور جميل حمداوي





الإهـــــداء

                                    إلى أمي وأبي                       
إلى أهلي وعشيرتي
إلى أساتذتي
إلى زملائي وزميلاتي
إلى الشموع التي تحترق لتضئ الآخرين
إلى كل من علمني حرفا
أهدي هذا البحث الأكاديمي راجياً من المولى
عز وجل أن يجد القبول والنجاح


المقدمــــــة


تتخذ الحقيقة ، في الخطابين الفلسفي والإبستمولوجي ، في الفترة الحديثة والمعاصرة ، عدة أوجه وأنماط فكرية، فقد تكون الحقيقة عقلية مع ديكارت - مثلا-، أو حسية مع التجريبيين، كدافيد هيوم، وجون لوك، واستيورات ميل...، أو تكون حقيقة حدسية مع هنري برجسون، أو تكون حقيقة برجماتية مع وليام جيمس... وقد تكون الحقيقة فطرية أو مكتسبة، وقد تكون يقينية مطلقة مع نيوتن - مثلا-، أو نسبية و محتملة مع إنشتاين، أو تكون منعدمة مع فيلسوف النفي نيتشه...
 هذا، وتعتمد الحقيقة على آليات متنوعة وأنساق فلسفية مختلفة ومتباينة المنظور والتصور. والغرض من هذه الدراسة هو إدراك التحولات التي طالت مفهوم الحقيقة في فلسفات الماضي والحاضر، ورصد تحولاتها في الإبستمولوجيات الحديثة والمعاصرة، وإدراك قيمة الحقيقة وجوديا ومعرفيا وقيميا، وتقديرها تقديرا نقديا إيجابيا. إذاً، ما الحقيقة في اللغة والاصطلاح؟ وهل يمكن تأسيس الحقيقة على الرأي الشخصي والاعتقاد والظن والوهم والاحتمال؟ وهل الحقيقة معطى أم بناء؟ وما مصادر الحقيقة ومعاييرها؟ وهل الحقيقة واحدة أو متنوعة؟ وهل الحقيقة مطلقة أو نسبية؟ وماهي قيمة الحقيقة؟ تلكم هي الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في هذه الورقة المتواضعة.
هذا ماسوف نرصده في كتابنا هذا الذي عنوناه بـ(مفهوم الحقيقة في الخطاب الفلسفي)، على أساس أن ليس هناك حقيقة فلسفية واحدة، بل ثمة حقائق متنوعة ومتعددة ومتشعبة، تختلف من فيلسوف إلى آخر باختلاف الأطروحات والتصورات والأنساق الفكرية والإيديولوجية.
ويأتي هذا الكتاب تتمة لكتاب ألفناه سابقا تحت عنوان (مفهوم الحقيقة في الفكر الإسلامي).
و نرجو من الله عز وجل أن يوفقنا في هذا الكتاب المتواضع، و يسدد خطانا، ويرشدنا إلى ما فيه صالحنا، ونستغفره عن أخطائنا وزلاتنا. كما نستسمح القراء الأفاضل عما في هذا الكتاب من نقص وتقصير ونسيان، فالكمال والتمام من صفات سبحانه وتعالى جل شأنه وعلا، وماتوفيقي إلا بالله.


المبحث الأول: مفهـــوم الحقيقـــة


لايمكن فهم الحقيقة بشكل جيد إلا إذا عرفناها لغة واصطلاحا على الوجه التالي:

المطلب الأول: تعريف الحقيقة لغة

من المعروف أن الحقيقة، في اللغة، هي الثبات والاستقرار والقطع واليقين ومخالفة المجاز. ومن ثم، فالحقيقة، في ( لسان العرب) لابن منظور، بمعنى الحق، والصدق، والصحة، واليقين، والوجوب، والرصانة، ومقابلة التجاوز. وفي هذا الإطار، يقول ابن منظور في لسانه:" بلغ حقيقة الأمر أي يقين شأنه. وفي الحديث: لايبلغ المؤمن حقيقة الإيمان حتى لايعيب مسلما بعيب هو فيه؛ يعني خالص الإيمان ومحضه وكنهه. وحقيقة الرجل: مايلزمه حفظه ومنعه ويحق عليه الدفاع عنه من أهل بيته؛ والعرب تقول: فلان يسوق الوسيقة وينسل الوديقة ويحمي الحقيقة... والحقيقة ما يحق عليه أن يحميه، وجمعها الحقائق. والحقيقة في اللغة:ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه، والمجاز ماكان بضد ذلك، وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة: وهي الاتساع والتوكيد والتشبيه، فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة،...وحق الشيء يحق، بالكسر، حقا أي وجب... وأحققت الشيء أي أوجبته. وتحقق عنده الخبر أي صح. وحقق قوله وظنه تحقيقا أي صدق. وكلام محقق أي رصين... والحق: صدق الحديث.والحق: اليقين بعد الشك.[1]"
 أما الحقيقة في كتاب( التعريفات) لأبي الحسن الجرجاني، فهي " اسم لما أريد به ما وضع له. وهي فعيلة من حق الشيء إذا ثبت ، بمعنى فاعلة، أي حقيق، والتاء فيه للنقل من الوصفية إلى الاسمية، كما في العلامة، لا للتأنيث. وفي الاصطلاح، هي الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح به التخاطب، والشيء الثابت قطعا ويقينا. يقال حق الشيء إذا ثبت. وهي اسم للشيء المستقر في محله، وما به الشيء هوهو كالحيوان الناطق للإنسان".[2]
وترتبط الحقيقة، في معجم لالاند (Lalande) ، بالمعنى الحقيقي. وضمن هذا السياق، تتعارض الحقيقة مع الخطإ. كما أن الحقيقة تحيل على الواقع بالمفهوم المنطقي، فكل ماهو موجود فهو حقيقي، وما ليس موجودا فهو خطأ[3].

المطلب الثاني: الحقيقة في الاصطلاح

والحقيقة ، في الاصطلاح، هي كل ماهو صادق وواقعي وثابت ويقيني، أوهي مطابقة الفكر للفكر، أو مطابقة الفكر للواقع ، أو كما يقول العرب:"الحقيقة هي مطابقة ما في الأذهان لما هو في الأعيان". وتتناقض الحقيقة مع الكذب والغلط والوهم والظن والشك والتخمين والرأي والاعتقاد والباطل.
ويلاحظ جليا أن الحقيقة تتخذ مفهوما معرفيا وقيميا. فعلى المستوى المعرفي، الحقيقة هي التي يتطابق فيها الحكم مع الموضوع المرصود، أو يتوافق فيها الحكم النظري مع الممارسة العملية. كما يقصد بالحقيقة، على المستوى القيمي، كل ما هو صادق وحسن ويقيني وثابت مقابل الكذب والسيء والزائل. لذا، يقول هيجل Hegel (1770-1831م) في موسوعته التي خصها بالعلوم الفلسفية :" عادة مانطلق لفظ الحقيقة على مطابقة موضوع ما لتمثلنا، وفي هذه الحالة فإننا نفترض وجود موضوع ينبغي أن يتطابق مع تمثلنا له. وعلى العكس من ذلك، فالمعنى الفلسفي للحقيقة يقتضي- بتعبير عام ومجرد- مطابقة محتوى ما لذاته. وهذه دلالة أخرى للفظ الحقيقة، مغايرة للدلالة المذكورة آنفا. أما الدلالة الفلسفية الأكثر عمقا للحقيقة، فهي توجد- في جزء منها- أيضا في استخدام اللسان. هكذا، نتحدث مثلا عن صديق حقيقي، ونعني به صديقا يسلك بطريقة مطابقة لمفهوم الصداقة.كما نتحدث أيضا عن منتوج حقيقي.أما اللاحقيقي فيتخذ نفس المعنى الذي يتخذه ماهو سيء أو قبيح، أي ما ليس ملائما في حد ذاته. وبهذا، المعنى فالدولة السيئة هي دولة غير حقيقية، وماهو سيئ هو غير حقيقي.وبشكل عام، فاللاحقيقي يكمن في التناقض الموجود بين التحديد أو التصور من جهة، ووجود الموجود من جهة أخرى."[4]
ويعني هذا أن مفهوم الحقيقة مفهوم ملتبس وغامض وشائك، ومتعدد الدلالات من حقل إلى آخر، ومن فيلسوف إلى آخر، حسب تصوره النظري ونسقه الفلسفي. وعلى الرغم من تعدد التعاريف والدلالات، فالحقيقة مرتبطة في جوهرها بالصدق، واليقين، والفضيلة، والسعادة، والكمال، والمعرفة العلمية الحقة.

المبحث الثاني: الحقيقــــة والــــرأي الشخصي


عندما نريد التحدث عن مفهوم الحقيقة داخل الخطاب الفلسفي ، يتبادر إلى أذهاننا مضاداتها العكسية. مما يدفعنا ذلك إلى طرح بعض الأسئلة العويصة والإشكاليات المعقدة، مثل:هل يمكن الحديث عن الحقيقة في معزل عن مقابلاتها كالوهم والرأي والاحتمال والاعتقاد؟ وهل يمكن أن نجعل من الرأي الشخصي سندا للمعرفة الحقيقية اليقينية أم أن الرأي مجرد حكم ذاتي تنقصه الحجة العلمية والبرهنة الحجاجية.ومن ثم، يصعب علينا الاطمئنان إليه لبناء معرفة حقيقية أو حقيقة يقينية ؟

المطلب الأول: الرأي عائق إبستمولوجي

تتقابل الحقيقة مع مجموعة من المفاهيم، كالرأي الشخصي (opinion)، والظن، والاعتقاد، والاحتمال، والوهم. فالإبستمولوجي الفرنسي جاستون باشلار ( Gaston Bachelard )(1884-1962م)يعتبر الرأي عائقا معرفيا ، يمكن التخلص منه أيما تخلص، من أجل تكوين معرفة علمية صحيحة وبناءة. فلا يمكن - علميا- بناء معارفنا واستدلالاتنا واستقراءاتنا وأقيستنا الرياضية والمنطقية والعلمية على مجموعة من الآراء الشخصية والمعتقدات العامة أو الخاصة أو الانطباعات المشتركة والحدوس المشوهة؛ لكونها آراء ذاتية شخصية نابعة من الوجدان والقلب والعاطفة، ومرتبطة بالمنافع البشرية والمصالح الإيديولوجية. بينما الحقيقة العلمية نموذج للمعرفة الموضوعية التي تقوم على الحجاج الاستدلالي، والتماسك المنطقي ، والمعرفة الحقة ، والاستنتاج المتماسك نظريا وتطبيقيا:" الرأي نوع من التفكير السيئ، بل إنه ليس تفكيرا على الإطلاق.إنه يترجم الحاجات إلى معارف من خلال تعيينه للأشياء وفق منفعتها، ومن ثم، يحرم نفسه من معرفتها.إننا لا نستطيع أن نؤسس أي شيء كيفما كان انطلاقا من الرأي. ولذلك، يجب القضاء عليه أولا. إن التفكير العلمي يمنعنا من تكوين رأي بخصوص مسائل لا نفهمها، أي بخصوص مسائل لا نعرف كيفية صياغتها بشكل واضح. إذ ينبغي في البداية معرفة كيفية طرح المشاكل. وهذا المعنى الذي تتخذه المشكلة هو الذي يمنح العقل العلمي خاصيته الحقيقية".[5]
وهكذا، يرفض باشلار الاعتماد على الرأي الشخصي؛ لأنه لا يجدي، بأي حال من الأحوال، في ميدان المعارف العلمية. لذلك، يستبدله بالحقيقة اليقينية القائمة على البرهان العقلاني نظرية وتطبيقا.


المطلب الثاني: الرأي القائم على الاحتمال يمكن أن يكون مصدرا للمعرفة

يرى الفيلسوف الألماني لايبنـز Leibniz(1646-1716م)أن الرأي المبني على الاحتمال يمكن أن يكون مصدرا من مصادر المعرفة العلمية، وخاصة في مجال المنطق، عندما يصعب الحسم في قضية معينة بشكل قطعي، فتتوفر لدينا بعض المعلومات والمعطيات. آنذاك ، يمكن الاستعانة بهذا الرأي الاحتمالي لبناء المعرفة وتكوينها. وفي هذا الصدد، يقول ليبنـز:" إن الرأي القائم على الاحتمال قد يستحق اسم المعرفة، وإلا سوف يتم إسقاط كل معرفة تاريخية وغيرها من المعارف.وبدون الدخول في نزاعات لفظية ، فأنا اعتقد أن البحث في درجات الاحتمال سيكون أكثر أهمية لنا، وهو ما نفتقر إليه، إذ يعتبر بمثابة النقص الذي تشكو منه علوم المنطق لدينا. ذلك، أننا عندما لا نستطيع أن نجزم في مسألة ما بشكل قطعي، فإنه بإمكاننا أن نحدد درجة الاحتمال انطلاقا من المعطيات المتوفرة، ومن ثم نستطيع أن نحكم بطريقة عقلانية على الجزء الأكبر جلاء."[6]
وهكذا، نرى أن الفيلسوف لايبنـز يدافع عن الرأي باعتباره وسيطا مهما في تشييد جهاز المعرفة المنطقية، مع المساهمة في تكوينها حجاجيا واستدلاليا.

المطلب الثالث: الرأي الشخصي درجة من درجات الحقيقة والمعرفة اليقينية

يرى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط( E.Kant ) (1724-1804م)أن الرأي الشخصي درجة من درجات المعرفة ؛ لأن المعرفة تبدأ أولا بالرأي، فالإيمان ثانيا، ثم تنتهي بالحقيقة ثالثا. ويتسم الرأي بكونه ناقصا ذاتيا وموضوعيا، وغير كاف لبناء المعرفة الحقيقية واليقينية ، ولاسيما في مجالات العقل الخالص الذي يرتبط ارتباطا كبيرا بالتجربة ، أو في مجال الرياضيات الخالصة التي لا تعتمد إطلاقا في بناءاتها الاستدلالية على الآراء الشخصية والمعتقدات الذاتية. وكذلك في المجال الأخلاقي، فلا يمكن إصدار الأحكام اعتمادا على الآراء الشخصية. وفي هذا السياق، يقول كانط :"يمثل الاعتقاد- أو القيمة الذاتية للحكم في علاقته باليقين الذي يتوفر في الوقت ذاته على قيمة موضوعية- ثلاث درجات، هي بالشكل التالي: الرأي، والإيمان، والمعرفة.
الرأي هو اعتقاد يعي بأنه غير كاف ذاتيا وموضوعيا، وعندما لا يكون الاعتقاد كافيا سوى من الناحية الذاتية، وفي الوقت ذاته يعتبر غير كاف من الناحية الذاتية ومن الناحية الموضوعية، يدعى المعرفة. فالاكتفاء الذاتي يسمى اعتقادا راسخا بالنسبة لي، أما الاكتفاء الموضوعي فيسمى يقينا بالنسبة لكل واحد...
ليس هناك أي مجال للرأي الشخصي بخصوص الأحكام التي تصدر عن العقل الخالص. فبما أن تلك الأحكام لا تستند على مبادئ التجربة، فإن مبدأ الارتباط يقتضي الكونية والضرورة، ومن ثم يقينا تاما، وإلا لن يكون هناك أي خيط يقود إلى الحقيقة.
يضاف إلى هذا أنه من العبث تكوين آراء في مجال الرياضيات الخالصة: فإما أن نعرف وإما نمتنع عن الحكم. وكذلك الشأن بالنسبة للمبادئ الأخلاقية: لا يجب أن نخاطر بفعل ما من خلال رأي بسيط مفاده أن كل شيء مباح، بل يجب أن نعرف ما نفعله".[7]
وهكذا، نجد أن الفيلسوف كانط يعترف بدور الرأي الشخصي باعتباره سندا مهما في بلورة الحقيقة ، ولكن بعيدا عن العقل الخالص، والعقل العلمي الأخلاقي، والعقل الرياضي الحق.

المطلب الرابع: ضرورة التحرر من الآراء السابقة لبناء الحقيقة اليقينية

يذهب الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت( Descartes ) (1596- 1650 م) إلى أن الشك هو المعيار المؤدي إلى الحقيقة واليقين على غرار رأي الغزالي (1111-1057م)، في كتابه( المنقذ من الضلال). ويعني هذا أن ديكارت يشك في كل شيء من أجل الوصول إلى الحقيقة المطلقة ، سواء على الصعيد الأنطولوجي أم الإبستمولوجي أم الأكسيولوجي، إلا أن شيئا واحدا لا يشك فيه إطلاقا هو عملية الشك نفسها التي تحيلنا على عمليات التفكير والتأمل والاستدلال والبرهنة. ومادام الإنسان يفكر فهو موجود، والله موجود، والطبيعة موجودة ، والإنسان بدوره موجود. لذلك، قال ديكارت قولته المشهورة:" أفكر ، إذاً، فأنا موجود".
هذا، ويوضح ديكارت مبدأ الكوجيطو بهذه الصيغة الفلسفية:" ونحن حين نرفض على هذا النحو كل ما يمكننا أن نشك فيه ، بل وحين نخاله باطلا، يكون من الميسور لنا أن نفترض أنه لا يوجد إله ولا سماء ولا أرض، وأنه ليس لنا أبدان. لكننا لا نستطيع أن نفترض أننا غير موجودين حين نشك في حقيقة هذه الأشياء جميعا، لأن مما تأباه عقولنا أن نتصور أن من يفكر لا يكون موجودا حقا حينما يفكر. وعلى الرغم من أشد الافتراضات شططا فإننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الاعتقاد بأن هذه النتيجة: أنا أفكر ، وإذا فأنا موجود، صحيحة. وبالتالي، إنها أهم وأوثق معرفة لمن يدبر أفكاره بترتيب.
ويبدو لي أيضا أن هذا المسلك هو خير المسالك التي نستطيع أن نختارها لكي نعرف طبيعة النفس، وأنها جوهر متميز كل التميز عن البدن: لأننا حين نفحص عن ماهيتنا نحن الذين نفكر الآن في أنه ليس خارج فكرنا شيء هو موجود حقا، نعرف جليا أننا لا نحتاج لكي نكون موجودين إلى أي شيء آخر يمكن أن يعزى إلى الجسم، وإنما وجودنا بفكرنا وحده. وإذا، ففكرتنا عن نفسنا أو عن فكرنا سابقة على فكرتنا عن الجسم، وهذه الفكرة أكثر يقينا، بالنظر إلى أننا لا نزال نشك في وجود أي جسم في حين أننا نعرف على وجه اليقين أننا نفكر."[8]
وليس الشك عند ديكارت إلا عملية فطرية ولدت معه منذ طفولته الناعمة، وهذه العملية التوثيقية والظنية هي التي ستحرره من الأخطاء السابقة، والإشاعات المنتشرة في الوسط الاجتماعي، وذلك كله من أجل بناء نسق معرفي حقيقي ويقيني صادق. وفي هذا المجال، يقول ديكارت :" كنت قد انتبهت، منذ سنواتي الأولى، إلى أني قد تقبلت كمية من الآراء الخاطئة على أنها آراء حقيقية وصادقة، وإلى أن ما أقمته على هذه المبادئ غير المؤكدة، لا يمكن أن يكون إلا أمورا مشكوكا فيها وغير مؤكدة؛ وذلك بحيث كان علي أن أقوم، مرة واحدة في حياتي، بالتخلص من كل الآراء التي تلقيتها وصدقتها إلى ذلك الوقت، وأن أبدأ كل شيء من جديد ابتداء من الأسس، وذلك إذا ما كنت أريد أن أقيم قدرا من اليقين الصلب والثابت في المعارف والعلوم.لكن بدا لي في ذلك الوقت أن هذه المهمة كبيرة جدا بالنسبة لعمري، فانتظرت إلى أن أبلغ أقصى سن أصبح فيه أكثر نضجا، بحيث أستطيع إنجاز هذا الأمر..."[9]
ويتبين لنا ، من خلال ما سبق، أن ديكارت يؤمن بضرورة التخلص من الآراء والمعتقدات السابقة التي تكون قد تكونت لدى الباحث أو الفيلسوف بالشكل الطبيعي أوالعادي ، بممارسة الشك من أجل الوصول إلى اليقين والمعرفة المطلقة.

المطلب الخامس: القلب مصدر للحقائق والمعارف

يرى بليز باسكال (B.Pascal )(1623-1662م)، في كتابه(خواطر/Pensées) إلى أن العقل ليس دائما مصدر المعارف والحقائق العلمية والإنسانية، فيمكن للقلب أن يكون مصدرا للمعرفة الحقيقية، مادامت هي نابعة من الذات والداخل. ومن ثم، فالقلب يعضد العقل، ويقويه لمعرفة الكثير من الحقائق الغامضة، وإدراكها بشكل جيد، ولاسيما الحقائق الروحانية والحقائق الرياضية والمعارف الفيزيائية. ومن هنا، فعلى العقل أن يؤسس خطابه المعرفي والعلمي على مبادئ القلب والغريزة. وأي سخرية تطال القلب، يمكن أن تطال كذلك العقل. لأن العقل يحتاج إلى حقائق القلب، مادام ينطلق منها بوصفها حقائق بديهية أولى. وفي هذا الصدد، يقول بليز باسكال :" نعرف الحقيقة لابواسطة العقل فقط، ولكن أيضا بواسطة القلب. فعن هذا الأخير نعرف المبادئ الأولى التي يحاول الاستدلال العقلي...
إن معرفة المبادئ الأولى، مثل: المكان والزمان والحركة والأعداد هي من الصلابة بحيث تتجاوز سائر المبادئ التي يقدمها لنا الاستدلال العقلي. إنما ينبغي على العقل أن يستند، لتأسيس خطابه بكامله، على المعارف الصادرة عن القلب والغريزة. فالقلب يشعر أن هناك ثلاثة أبعاد في المكان، وأن الأعداد لانهائية، وبعد ذلك، يأتي العقل ليبرهن أن لا وجود لعددين مربعين يكون أحدهما ضعف الآخر.
إننا نشعر بالمبادئ، أما القضايا فيستخلص بعضها من بعض، والكل له نفس اليقين، وإن اختلفت الطرق المؤدية إليه. ومن غير المفيد كذلك، بل من المثير للسخرية أن يطلب العقل من القلب البرهنة على مبادئه الأولى حتى يتوافق معها، ومن المثير للسخرية أيضا أن يطلب القلب من العقل أن يشعر بجميع القضايا التي يبرهن عليها حتى يتلقاها منه."[10]
يذهب باسكال ، في هذا المقتطف النصي، مذهبا بعيدا حينما يجعل القلب مصدرا للمعرفة الحقيقية. ومن جهة، يمكن أن نتفق معه حينما تكون المعرفة مرتبطة بالإيمان ومعرفة الخالق. آنئذ، يمكن أن نعتبر القلب مصدرا للحقيقة الصادقة. ولكن من جهة أخرى ، يستحيل الحديث عن القلب على أساس أنه مصدر للحقيقة في مجال العلوم الحقة والعلوم التجريبية.
ويتبين لنا ، مما سبق ذكره، أن الحقيقة قد تنبني على الرأي الشخصي، أو الاعتقاد، أو الشك، أو فراسة القلب، أو الاحتمال، أو العقل، أو التجربة. ومن هنا، فالحقيقة - في معتقدي الشخصي- تستند إلى معطيين: معطى إيماني قائم على التسليم، وتمثل الأخلاق، واستبصار الروح ، حينما يتعلق الأمر المبحوث فيه بالغيبيات أو الأخرويات التي من الصعب إدراكها بالعقل والتجربة معا. بيد أن واقعنا الفيزيائي يستلزم منا إدراكه معرفيا عن طريق العقل والتجربة. لكن ثمة خطوات أولية ضرورية لقيام العلم قد تسبق الفهم العقلاني والخبرة التجريبية ، ويمكن حصرها - مثلا - في الانطلاق من فرضيات احتمالية، أوالاحتكام إلى اعتقادات حدسية، أو شخصية أو علمية،مثل تفاحة نيوتن التي أوحت له بنظرية الجاذبية. بل يمكن القول: إن فراسة المؤمن الروحية قد تساعده على استشراف الأمور قبل وقوعها. كما أن معظم النظريات الفلسفية انطلقت من فرضيات تخمينية وأفكار تأملية، البعض منها مثالي، والبعض الآخر واقعي.








المبحث الثالث: الحقيقـــة والواقــــع


تدل كلمة الواقع، باستقراء مشتقاتها اللغوية والدلالية، على ماهو ثابت ويقيني. ومن ثم، فالواقع غير قابل للتغير والتحول، على عكس ماهو غير واقعي الذي يحيلنا على الوهمي والمجرد واللايقين والغريب والمعقول... ويدل الواقع أيضا على ما هو حسي وتجريـبي وموضوعي ومادي. إذا، فما علاقة الفكر بالواقع؟ وهل الواقع ثابت فعلا؟ أم هو واقع متغير ومتحول ؟ وما علاقة الحقيقة بالواقع؟ هل ثمة مطابقة يقينية مطلقة أم مطابقة نسبية ومحتملة؟

المطلب الأول: مصدر الحقيقة هو عالم المثل

يذهب الفيلسوف اليوناني أفلاطون(Plato )(نحو427-347ق.م) إلى أن الحقيقة اليقينية لا توجد في الواقع المادي الحسي النسبي، بل توجد في عالم المثل الذي يتسم بالطابع التجريدي والمفارق للعالم المادي المتغير والمزيف. بينما عالم المثل هو عالم ثابت ويقيني وأصيل وجوهري. ومن ثم، فالوجود - حسب (أسطورة الكهف) لأفلاطون- ليس هو الوجود الذي نعيش فيه، فهو مجرد نسخة مزيفة من عالم حقيقي هو عالم المثل الذي لايتم إدراكه إلا عن طريق التأمل العقلي المجرد. كما أن المعرفة الحقيقية واليقينية والمطلقة لا توجد في عالمنا المحسوس والمتغير والنسبي، بل توجد في عالم المثل الذي يحتوي بدوره على قيم متكاملة ومطلقة، كالعدل، والحق، والخير، والجمال. وتتسم هذه القيم بكونها خالدة وحقيقية وكلية ومطلقة. بينما قيم البشر هي قيم زائفة ونسبية، مادامت ترتبط بالعالم النسبي الذي هو انعكاس مشوه للعالم الحقيقي المثالي. ومن ثم، فالقاضي العادل الحقيقي لايوجد إلا في عالم المثل، بينما في عالمنا المتغير لا يوجد سوى قاض نسبي غير كامل في قيمه وعدالته وفضائله. وينطبق هذا الحكم على الجميل والخير وعلى باقي القيم الأكسيولوجية والفضائل الإنسانية المعروفة لدينا. وعلى هذا الأساس، طرد أفلاطون الشعراء من جمهوريته الفاضلة لكونهم يحاكون عالما نسبيا وغير حقيقي[11]. ومن هنا، ينطلق أفلاطون من تصور مثالي مفارق لعالم المادة والحس والتجربة والظواهر الملموسة بغية تبيان مصدر الحقيقة اليقينية الصادقة.

المطلب الثاني: مصدر الحقيقة هو عالم الواقع

يرفض الفيلسوف اليوناني أرسطو( Aristote) (نحو384-322ق.م)تصور أستاذه أفلاطون بشكل جذري، وينكر أن يكون هناك عالم المثل بهذا التجريد الخيالي الطوباوي. ومن ثم، يستحيل أن يصدر المادي المحسوس عن المثالي المجرد. ومن هنا، يقول أرسطو بأن الحقيقة اليقينية توجد في عالمنا الحسي المادي، ولكن تكمن في الجواهر دون الأعراض. أي: إن الحقيقة ثابتة في الجوهر دون الخصائص والأشكال الثانوية التي تتغير من حالة إلى أخرى حسب الظروف والمتغيرات الفيزيقية والميتافيزيقية. فالشجرة ثابتة في جوهرها، ولكن أعراضها تتغير مع الفصول؛ ففي الربيع تكون مورقة، وتصفر في الصيف بأوراقها وثمارها، وتتساقط أوراقها الذابلة في الخريف، وتتعرى في فصل الشتاء. لكن ما يبقى هو جوهر الشجرة. ومن ثم، فالحواس والأعراض هي مؤشرات سيميائية تدل على الجواهر، وهي بمثابة معقولات منطقية ومجردة وثابتة نتوصل إليها عن طريق الحس. وبعد ذلك، ننتقل إلى عمليات التجريد والتعميم ، واستخدام الأقيسة الذهنية استقراء واستنباطا ، وإثباتا ونفيا[12].

المطلب الثالث: الحقيقة هي مطابقة الفكر لذاته

يرى ديكارت أن الحقيقة هي مطابقة الفكر لذاته. أي: إن الله خلق الإنسان، وهو مزود بمجموعة من البداهات العقلية والمنطقية اليقينة التي لا يمكن أن يعتريها الشك أو الظن أو الخطأ، مادام هناك ما يسمى بالضمان الإلهي، كما عند الفيلسوف الهولندي سبينوزا(Spinoza) (1632-1677م. ويعني هذا أن الله لا يمكن أن يكذب على الإنسان، وهذا محال في حقه تعالى. لذا، فما زود به الإنسان عبارة عن حقائق صادقة يقينية ومطلقة، مثل: الكل أكبر من الجزء، والمربع له أربعة أضلاع، وواحد زائد واحد يساوي اثنين...ومن هنا، فالحقائق البديهية اليقينية قد تكون حقائق رياضية أو منطقية، تعتمد على مجموعة من المبادئ ،مثل: مبدإ الهوية كما في هذه الصيغة: محمد هو محمد، ومبدإ عدم التناقض ، فلا يعقل أن نقول: محمد حاضر وغائب، ومبدإ الثالث المرفوع ، كأن نقول: المعتزلة عقلانية ونصية. فهنا، أطراف ثلاثة: المعتزلة عقلانية، والمعتزلة نصية، والمعتزلة تجمع بين العقلانية والنصية، فالمنطق يرفض هذا التثليث القولي، فإما أن نقول: المعتزلة عقلانية وإما أن نقول إنها نصية. ونذكر أيضا مبدأ السببية، فلكل مسبب سبب. ومن هنا، يصل ، بهذه الحقائق الرياضية والمنطقية ، إلى اليقين المطلق.، في حين، يعجز الحس أو التجربة عن الوصول إلى الحقيقة لخداع الحواس للإنسان كما في مثالي: السراب، والتقاء خطي السكة الحديدية...
ومن ثم، فالعقل هو أعدل قسمة متساوية بين البشر ، كما أنه المصدر الوحيد - حسب ديكارت وليبنـز وسبينوزا- للوصول إلى الحقيقة اليقينية الصادقة، بينما التجربة عاجزة عن ذلك؛ بسبب اعتمادها على الحواس الخادعة ، وارتكازها على بادئ الظن ليس إلا.

المطلب الرابع: الحقيقة هي مطابقة الفكر للواقع

يذهب الفلاسفة التجريبيون الإنجليز، كدافيد هيوم( Hume ) (1711-1776م)، وجون لوك( Locke) (1632-1704م)، وجون استيوات ميل( Mill) (1806-1873م)، أن الإنسان يولد صفحة بيضاء، وأن عقل الإنسان يكون فارغا من الحقائق التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر التجربة، وتشغيل الحواس لإدراك المعارف والحقائق الصادقة. وتتم التجربة طبعا عن طريق استعمال الملاحظة المنظمة، وتجريب الفرضيات، وإعادة التجربة مرات عدة، واستنتاج النظريات أو القوانين. ولو كان العقل أعدل قسمة متساوية بين البشر كما يقول ديكارت، لما وجدنا عقول البشر مختلفة، ولما وجدنا في الفصل الدراسي الأذكياء والأغبياء على حد سواء. ومن هنا، فمصدر الحقيقة المطلقة واليقينية حسب التجربيين هو التجربة أو الواقع الحسي الخارجي. أي: إن الحقيقة ماهي إلا مطابقة الفكر للواقع المرجعي[13].

المطلب الخامس: الحقيقة هي مطابقة الفكر لذاته وللواقع معا

يرى الفيلسوف الألماني كانط أن الحقيقة هي مطابقة الفكر لذاته ومطابقة الفكر للواقع. ويعني هذا أن كانط يوفق بين العقلانيين والتجربيين، وأن الحقيقة لا تكون بالعقل فقط، ولا بالتجربة فقط، بل بهما معا. فالحدوس الحسية بدون مقولات عقلية عمياء، والمقولات العقلية بدون حدوس حسية جوفاء. وللتوضيح أكثر، فالتجربة بدون العقل تبقى خامة غير مفهومة. أي: عبارة عن أحاسيس وحدوس حسية غير منظمة أو مرتبة، حتى يتدخل العقل بمقولاته المنطقية ليحول التجربة إلى تصور عقلاني مفهوم. فإذا وجدنا قطنا يحترق، وبقربه النار، فهذه عبارة عن انطباعات حسية مبهمة، فلابد أن يتدخل العقل عن طريق الفهم بمقولاته المنطقية ، مثل: الزمان، والمكان، والسببية، لكي نقول: إن النار هي سبب احتراق القطن. ومن ثم، يمكن القول : إن القطن والنار عبارة عن مدركات حسية، لكن السببية مفهوم عقلاني مجرد له علاقة بالعقل الخالص ، وهو عبارة عن مبادئ منطيقة ومعرفية مجردة وكلية ، بها يدرك العقل المعطيات الخارجية ، وينظمها بشكل منظم ومرتب.
ومن هنا، فمصدر الحقيقة المعرفية والعلمية عند كانط هو العقل والتجربة معا (الحقيقة المادية والحقيقة الصورية). لكن هناك حقائق لا يمكن الوصول إليها عن طريق العقل والتجربة ، وهي الحقائق الميتافيزيقية أو الماورائية، أو كما يسميها كانط بحقائق النومين التي لا يمكن الوصول إليها إلا عن طريق العقل العملي والأخلاقي(الإيمان الداخلي). أما الحقائق الفيزيقية (الفينومين) ، فيمكن إدراكها عبر العقل والتجربة معا. ويعني هذا أن العقل محدود في طاقته الإدراكية، لا يمكن أن يتجاوز نطاقه المرسوم له، وخاصة في استكناه الماورائيات، كمعرفة الله ، وخلق العالم، وإدراك حقائق النفس والعالم الآخر... وفي هذا السياق، يقول كانط:" إن عقلنا لا يشبه، نحوا من الشبه، سهلا ممتدا لا محدودا، لا تعرف حدوده سوى بكيفية عامة، بل ينبغي أن يشبه بالأحرى بكرة يمكن قياس أبعادها...محتوياتها وحدودها قابلة للتعيين بدقة.
خارج هذه الكرة لا يعود ثمة للعقل أي موضوع قابل للمعرفة، بل إن المسائل المتعلقة بهذه الموضوعات المزعومة (خلود النفس، وجود الله، بداية العالم) لا تتعلق سوى بمبادئ ذاتية تشكل أساسا لتحديد كوني شمولي للعلاقات التي يمكن أن تقوم، ضمن حدود هذه الدائرة، بين تصورات (مفاهيم) الفهم"[14].
وعلى أي، فكانط ، في منظوره الفلسفي حول الحقيقة ، قد حاول جادا التوفيق بين التيار العقلاني الذي كان يمجد العقل، ويقدسه إلى درجة التأليه، والتيار التجريبي الذي كان ينافح عن التجربة باعتبارها مناط البحث العلمي، وبكونها أيضا دليلا حقيقيا للوصول إلى اليقين الصحيح.

المطلب السادس: الحقيقة هي مطابقة الواقع للفكر

يرى الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر( Martin Heidegger ) (1889-1976م) أن الحقيقة ليست هي مطابقة الفكر للواقع، بل هي مطابقة الواقع للفكر، حيث" يفسح هذا الطابع المزدوج للتوافق أو التطابق المجال لبروز التعريف التقليدي لماهية الحقيقة:" الحقيقة هي مطابقة الشيء للمعرفة. ولكن هذا يمكن أن يفهم أيضا بالمعنى التالي: إن الحقيقة هي مطابقة المعرفة للشيء.إلا أن الحقيقة مأخوذة بهذا المعنى، بوصفها حقيقة الحكم، لا تكون ممكنة إلا إذا تأسست على حقيقة الشيء. فهذان التصوران للحقيقة يظل مقصدهما هو المطابقة، وإذا، فهما يتناولان الحقيقة بوصفها مطابقة..."[15]
ويتجاوز هيدجر مفهوم المطابقة باعتبارها مفهوما تقليديا في تحديد علاقة المنطوق بالشيء المرصود منطقيا. في حين، تتجسد الحقيقة على أنها حرية وكشف للكائن وعملية تأويل، واستعداد للانفتاح على الكائن والممكن استكشافا واستشرافا وقراءة وتقبلا. فيظهر الكل على حقيقته بدون تمويه أو تزييف أو خداع أو مكر أو قناع.
المطلب السابع: الحقيقة هي مطابقة نسبية واحتمالية

يرى ألبرت ( A.Einstein ) (1879-1955م) ، باعتباره عالما فيزيائيا ومفكرا في مجال العلوم، أن الحقيقة العلمية ، في مجال المعارف العلمية ، ولاسيما في ميدان الفيزياء الذرية الميكروسكوبية ، قائمة على ماهو نسبي واحتمالي. وليست هناك حقائق مطلقة ويقينية كما كان يقول نيوتن؛ لأن العالم الذي نتعامل معه هو عالم الجزيئيات الدقيقة التي تتطلب منهجا أكسيموماتيكيا قائما على الاحتمال والافتراض، وصياغة مجموعة من القواعد النظرية العقلانية في غياب التجربة والواقع الخارجي. لأن فضاء العلم - اليوم- هو بمثابة إنشاءات افتراضية نسبية واحتمالية، يتم البرهنة عليها عقلانيا واستدلاليا بشكل نظري في غير حاجة إلى التجارب والاختبارات المعملية والميدانية[16]. ومن ثم، فالحقيقة عند إنشتاين مجرد حقيقة نسبية مبنية على منطق الافتراض والاحتمال، وليس هناك بشكل قطعي ما يسمى باليقين الرياضي أو المنطقي أو الفلسفي أو الفيزيائي. فكل شيء في هذا العالم نسبي واحتمالي وممكن.[17]
وانطلاقا مما سبق، فالحقيقة - في اعتقادي الشخصي- هي مطابقة الفكر لذاته، ومطابقة الفكر للواقع، ومطابقة ذلك الواقع للنص (النص الديني أو النقلي )، وقد تكون تلك الحقيقة مبنية على عدم المطابقة ، وخاصة في الخطابات الفلسفية القائمة على التفكيك، والتشريح، والاختلاف، وتدمير المعنى.

المبحث الرابع: أنــــواع الحقيقــــة


يمكن الحديث عن أنواع عدة من الحقيقة، فهناك الحقيقة الصورية المنطقية الشكلية التي تقوم على ربط القضايا المنطقية ببنائها الداخلي بغية بناء تماسكها العقلي على مستوى البرهنة والاستدلال؛ والحقيقة المادية التجريبية التي تربط الحقيقة بالعالم الواقعي والخارجي والتجريبي لمعرفة صدقها ويقينها. كما تتنوع الحقيقة أيضا وتتلون بتعدد الخطابات ، وتعدد مرسليها ، وتختلف حسب طبيعة الخطاب وسياقه وشكله. إذ يمكن الحديث عن الحقيقة العلمية في الخطاب العلمي، والحقيقة الفلسفية في الخطاب الفلسفي، والحقيقة الدينية في الخطاب الديني، والحقيقة السياسية في الخطاب السياسي، والحقيقة الاقتصادية في الخطاب الاقتصادي، والحقيقة اللغوية في الخطاب اللساني...

المطلب الأول: الحقيقة سلطة ومصدرها السلطة

 يثبت ميشيل فوكو( M.Foucault ) (1926-1984م) ،في كتاباته الفلسفية، أن الحقيقة تمارس سلطتها على المجتمع بسبب طابعها الإكراهي وقوتها الحجاجية والمؤسساتية. والمقصود من هذا أن الحقيقة سلطة ومصدرها السلطة. ومن ثم، فالحقيقة لا توجد خارج السلطة، ولا تخلو من السلطة. ومن ثم، تتميز الحقيقة، في المجتمعات المعاصرة، بخمس صفات أساسية هي:
1- إن الحقيقة مقصورة على شكل الخطاب العلمي، ومحصورة في المؤسسات التي تنتج هذا الخطاب العلمي؛
2- إن الحقيقة خاضعة لنوع من التحريض الاقتصادي والسياسي الدائم؛
3- إن الحقيقة هي موضوع نشر واستهلاك عبر أجهزة التربية أو الإعلام؛
4- تنقل الحقيقة وتنتج تحت مراقبة بعض الأجهزة السياسية أو الاقتصادية الكبرى، مثل: الجيش، والجامعة، والكتابة، ووسائل الاتصال الجماهيري؛
5- إن الحقيقة هي مدار كل نقاش سياسي وصراع اجتماعي[18].
ومن ثم ، فالحقيقة عند مشيل فوكو هي " مجموع الأشياء التي يتعين اكتشافها أو حمل الآخرين على قبولها، بل مجموع القواعد التي يمكن بمقتضاها فرز ماهو حقيقي مما هو خاطئ، وإضفاء سلطة ذات تأثيرات خاصة على ماهو حقيقي، هذا علما بأن الأمر لا يتعلق هنا أيضا بكفاح لصالح الحقيقة، بل من أجل تحديد مكانة الحقيقة وقيمتها ودورها الاقتصادي السياسي...
لايتعلق الأمر بتخليص الحقيقة من كل منظومة من منظومات السلطة، إذاك وهم، لأن الحقيقة هي ذاتها سلطة، وإنما يتعلق الأمر بإبعاد سلطة الحقيقة عن أشكال الهيمنة (الاجتماعية والاقتصادية والثقافية) التي تشتغل داخلها لحد الآن"[19]
ويعني هذا كله أن المجتمع الغربي لا يؤمن إلا بالحقيقة العلمية، تلك الحقيقة التي لها سلطة كبرى على المستوى العلمي والمؤسساتي والثقافي والاجتماعي والسياسي. ومن ثم، فالعلم هو مصدر الحقيقة في المجتمعات الغربية المتقدمة. في حين، إن الحقيقة الدينية هي التي لها سلطة كبرى وحقيقية في المجتمع الإسلامي. وهي كذلك مصدر الحقيقة في جميع مناحي الحياة، ومصدر التشريع والاجتهاد والاستشهاد، والترجيح بين الدلائل المختلفة والأحكام المتعارضة.

المطلب الثاني: الحقيقة اليقينية هي التي تقوم على البرهان

يؤكد أرسطو أن الحقيقة المتعالية على الشك والظن والاحتمال هي الحقيقة البرهانية القائمة على العقل والمنطق واليقين الرياضي، سواء على مستوى الاستقراء أم على مستوى الاستنباط؛ " لأن الحكم الذي يقرر نفسه على أنه صادق، يقرر نفسه أيضا على أنه قد أقيم البرهان عليه. والبرهان هو، على وجه التحديد، ما يسمح له بأن يؤكد نفسه، هو القوة التي تدعمه من الداخل، وتثبت صحته وصدقه. والواقع أن امتلاء الوعي بحقيقة من الحقائق، إنما هو إدراك هذه الحقيقة في ينابيعها وأسسها الشرعية، وإذا أخذنا بهذا المعنى للبرهان... فلا يمكن لقضية أن تقرر نفسها بلا برهان. وعندما تحمل برهانها في نفسها نسميها بديهة[20]."
ويتبين لنا ، من هذا النص، أن السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة- حسب أرسطو- ليس هو الشك أو السفسطة أو الخطابة المغالطية ، بل المسلك الوحيد لليقين هو البرهان العقلي والمعالجة المنطقية الصحيحة.
وتأسيسا على ماسبق، فالحقيقة واحدة (الحقيقة الربانية)، بيد أن الطرق المؤدية إليها متنوعة، قد يكون الطريق نصا أو برهانا أو بيانا أو عرفانا...أما الحقيقة العلمية - في منظوري الشخصي- فهي حقيقة فرعية في خدمة الحقيقة الأصل، وهي الحقيقة الربانية، وهذه الحقيقة الثانوية قد نصل إليها عبر العقل أوعبر التجربة أو عبرهما معا.

المطلب الثالث: الحقيقة العلمية قوامها الخطأ الإيجابي

يرى جاستون باشلار( G.Bachelard) (1884-1962م)أن الحقيقة، في المجال العلمي، تعترضها مجموعة من العوائق الإبستمولوجية (المعرفية) كالظن وبادئ الرأي؛ لأن هذا الأخير غير نقدي ووثوقي، ثم لا يفكر. لذا، ينبغي التحرر من هذه الأخطاء والعوائق لبناء حقيقة علمية يقينية وصادقة. ومن ثم، فالحقيقة العلمية هي بمثابة خطإ تم تصحيحه علميا. وكل الحقائق العلمية في وجودنا الكوني والمعرفي هي عبارة عن أخطاء بالمفهوم الإيجابي للخطإ لا بالمفهوم السلبي. فكل عالم يأتي ليصحح أخطاء سابقيه من الوجهة العلمية نظرية وتطبيقا، والتاريخ العلمي في الحقيقة هو تصحيح للأخطاء. كما أن العلم يتطور ويتقدم بتصحيح النظريات والتجارب العلمية السابقة كما يقول أيضا كارل بوبر. ومن ثم، فالحقيقة عند باشلار هي القائمة على الخطإ العلمي المصحح، حيث " يتم التوصل إلى الحقيقة العلمية عبر العودة إلى الأخطاء الماضية، أي عبر عملية ندم ومراجعة فكريين. وفي الواقع، فالمعرفة العلمية هي معرفة تتم دوما ضد معرفة سابقة، وذلك بتقويض المعارف غير المصاغة صياغة جيدة، وبتخطي ما شكل، في النفس المفكرة، عائقا أمام عملية التعقل المعرفي.
إن العلم، من حيث حاجته إلى الاكتمال كما في مبدئه نفسه، يتعارض تعارضا مطلقا مع الرأي. وإذا حصل أن أعطى العلم الشرعية للرأي، فذلك لأسباب أخرى غير الأسباب التي يقوم عليها الرأي: لدرجة تسمح بالقول بأن الرأي، من الناحية المبدئية، هو دوما خاطئ.
الرأي يفكر تفكيرا ناقصا، بل لا يفكر: إنه يعبر عن حاجات معرفية. إن الرأي وهو يتناول الموضوعات من زاوية نفعها وفائدتها، يحرم على نفسه معرفتها. لذا لا يمكن أن نؤسس أي شيء على الرأي بل يجب أولا أن نقضي عليه.إنه العائق الأول الذي يتعين تجاوزه في مجال المعرفة العلمية."[21]
وهكذا، يشتغل باشلار على الحقيقة والخطإ ضمن حقل المعرفة العلمية أوما يسمى بالإبستمولوجيا. ومن ثم، يثبت باشلار أن الحقائق العلمية مبنية على تاريخ الأخطاء، وأن هذه الأخطاء تتقدم عن طريق صراع النظريات، وتصحيح بعضها البعض.لذا، قيل:" العلم هو تاريخ الأخطاء".

المطلب الرابع: لا وجود للحقيقة مادامت هي مجرد أوهام

يذهب نيتشه (F.Neitzshe) (1844-1900م) إلى أن الحقيقة غير موجودة أصلا في هذا الوجود الذي يسيطر فيه القوي، وتنتعش فيه الإرادة والسيطرة، مادامت هذه الحقيقة مرتبطة بالوهم والزيف والضلال. ويعني هذا أن الفكر البشري خاضع لمبدأين أساسين هما سببان كافيان لوقوعه في هذا الوهم:
أولا: ميل الإنسان إلى السلم والمسالمة خوفا من إثارة الحرب، وإشعال الفتن التي ستدمر كل بني البشر بدون استثناء. ومن ثم، فالإنسان يحافظ على نفسه، ويحب البقاء. لذا، يلتجئ إلى الكذب والنفاق، واختلاق المبررات، ونفاق الآخرين خوفا من العقاب والموت ، وحفاظا على ذاته ووجوده.
وثانيا: مادام الإنسان يستخدم اللغة القائمة على بلاغة التشبيه والاستعارة، فإنه لايخلق بهذه البلاغة القائمة على التهويل والتضخيم والمبالغة سوى الأوهام والظنون الكاذبة البعيدة عن الصدق واليقين. ويعني هذا أن الكائن البشري كائن مجازي بامتياز لايخلق سوى المبالغات الزائفة في إصداره للأحكام القيمية والمعرفية. ومن هنا، يعلن الفيلسوف الألماني نيتشه أن الحقيقة منعدمة ، وهي مجرد وهم مطلسم.ومن هنا، يقول نيتشه:" بقدر ما يعمل الفرد على حفظ بقائه تجاه الآخرين، بقدر ما يغلب أن لا يستخدم العقل، في الأحوال العادية، إلا من أجل الخفاء والكتمان. غير أن رغبة الإنسان تحت تأثير الضرورة والضجر معا، في أن يحيا حياة مجتمعية وقطيعية، تجعله في حاجة إلى إبرام السلم مع الآخرين، والسعي، وفقا لذلك، إلى إلغاء حالة الحرب الشاملة والدائمة(حروب الكل ضد الكل)، ومحوها من عالمه.وإن إبرام السلم هذا ليجلب معه ما يشبه خطوة أولى نحو اكتساب غريزة الحقيقة الغامضة كاللغز. أي استتباب السلم يتم معه تثبيت وإقرار ما ينبغي أن يكون حقيقة....
ماهي الحقيقة إذا؟ إنها حشد متحرك من الاستعارات والكنايات، والتشبيهات بالإنسان، إنها، باختصار، جملة من العلاقات البشرية، أعلي من شأنها ونقلت من مجالها، وزينت بالصور الشعرية والبلاغية، وصارت بعد طول استعمال، مثل شعب من الشعوب صلبة، شرعية قاسرة: الحقائق نسينا أنها أوهام، واستعارات فقدت، من فرط الاستعمال والتداول، جمالها الحسي الخلاب، وقطع نقدية تلاشت آثار الصورة أو الرسم المطبوع عليها، فصارت تتداول، بعدئذ، ليس بوصفها قطعا نقدية، بل بوصفها قطعا معدنية فقط."[22]
وعليه، ينكر نيتشه وجود أي حقيقة ما، مادامت ترتكز هذه الحقيقة على المبالغة اللغوية، والتهويل المجازي، والخوف من الموت. وهنا،إشارة واضحة إلى سخط نيتشه على واقعه المنحط، وتبرمه من القوانين والمعارف والقيم السائدة في مجتمعه الموبوء كينونة ووجودا وكونا.
وبناء على ماسبق، لايمكن إطلاقا القول مع نيتشه بأن الحقيقة منعدمة، وإلا أصبح هذا العالم عبثا وسخرية وعدما وتيها. وثمة حقيقتان أساسيتان: فمن جهة، هناك الحقيقة الربانية المطلقة (الحقيقة العليا) التي يتم إدراكها بالنص أولا، فالعقل ثانيا، ثم الإيمان والتسليم ثالثا. وهناك ، من جهة أخرى، الحقيقة الدنيوية النسبية (الحقيقة السفلى) التي يتم إدراكها بالعقل والتجربة معا.



المطلب الخامس: الحقيقة واحدة والسبل متفرقة

يعد ابن رشد (520-595هــ) من أهم فلاسفة المدرسة المغربية ، فقد تميز بالعقلانية التي كانت أساس النهضة الأوربية، وقد تجلت هذه العقلانية الرشدية في ترجمة كتب أرسطو وشرحها، ولاسيما كتبه المنطقية والميتافيزيقية، كما توفق في التوفيق بين الدين والفلسفة داخل أرضية شرعية.
هذا، ويذهب ابن رشد ، في كتابه ( فصل المقال) [23] إلى أن هناك حقائق عدة توصل الإنسان إلى حقيقة يقينية واحدة، وهي الحقيقة الربانية القائمة على التوحيد، ونبذ التعددية والشرك الوثني. وهكذا، نجد أن هناك من يعتمد على الخطابة للوصول إلى الحقيقة كالفقهاء. وهناك من يختار الجدل كعلماء الكلام (المعتزلة، والأشاعرة، والماتريدية...). وهناك من يعتمد على العرفان كالمتصوفة. وهناك من يفضل البرهان كالفلاسفة للوصول إلى الحقيقة الصادقة. لكن ابن رشد يرى أن الحقيقة اليقينية لايمكن الوصول إليها إلا عن طريق البرهان العقلي، ذلك البرهان الذي لايتعارض مع الشرع الرباني مادام الحق لايضاد الحق، بل يوافقه ويلائمه هدفا ووظيفة ومقصدا. ويتمثل ذلك في معرفة الحق، والتأكد من وجود الله عز وجل صانع هذا الكون الأرحب والمعجز. وبهذا، يعمد ابن رشد إلى التوفيق بين الفلسفة والشريعة على غرار الفلسفة المغربية كما عند ابن طفيل وابن باجة مثلا، مع الاستفادة، بشكل من الاشكال، من الفلسفة المشرقية ، كما يبدو ذلك جليا عند الكندي، والفارابي، وابن سينا، والغزالي...
ويقول ابن رشد في كتابه( فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ):"وإذا كنا نعتقد، معشر المسلمين، أن شريعتنا، هذه الإلهية، حق، وأنها التي نبهت على هذه السعادة. ودعت إليها التي هي المعرفة بالله عز وجل، وبمخلوقاته، فإن ذلك متقرر عند كل مسلم من الطريق الذي اقتضته جبلته وطبيعته من التصديق، وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق، فمنهم من يصدق بالبرهان، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية تصديق صاحب البرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية.
وإذا كانت الشريعة حقا، وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع، أنه لايؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ماورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له."[24]
وهكذا، يتبين لنا أن المشروع الرشدي ينطلق من مبدإ عام هو" إن الحقيقة واحدة وإدراك الناس لها يختلف بالدرجة فقط، وليس بالنوع"، وفي ضوء هذا الفهم للحقيقة، وأهلية الناس على إدراكها، يناقش ابن رشد إشكالية العقل والانغلاق المذهبي، ويحاول أن يعيد رسم حدود العلاقة بين الدين والفلسفة أو العقل والوحي، بما يحفظ لكل منهما حضوره ووظيفته ونشاطه على مستوى القول المعرفي والبناء الاجتماعي."[25]
ويعني هذا أن ابن رشد قد تناول وحدة الحقيقة على مستوى الهدف والمقصد(وحدة الحقيقة الربانية). وتحدث، في الوقت نفسه، عن تنوع المنهج في الوصول إلى الحقيقة (المنهج البياني ، والمنهج البرهاني، والمنهج العرفاني). وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على انفتاح ابن رشد على الخطابات الفكرية والفلسفية الأخرى، وتجنب الانغلاق والتعصب في مجال الفكر والتأمل، مع الأخذ بفلسفة التسامح والتفاهم والتعايش في التعامل مع أطروحات الآخرين ، بما فيهم الفلاسفة اليونانيون.
ومن هنا، فقد رد ابن رشد على الغزالي الذي كفر الفلاسفة في كتابه( تهافت الفلاسفة)[26]، فصنف كتابا تحت عنوان( تهافت التهافت) ، للرد على الغزالي في ثلاث مسائل أو حقائق كبرى كفر فيها فلاسفة الإسلام، معتمدا في ذلك على المنطق أولا، والدين ثانيا. وهذه الحقائق الفلسفية هي: قدم العالم، وعلم الله الكليات دون الجزئيات، وحشر النفوس دون الأبدان أو الأجساد.







المبحث الخامس: قيمــــة الحقيقـــــــة


من المعلوم أنه يمكن الحديث عن حقيقة تراد لذاتها، على أساس أنها خطاب معرفي واستدلالي وبرهاني، بعيدا عن أي معيار خارجي أو منفعة مباشرة وغير مباشرة. ويمكن الحديث أيضا عن حقيقة ذات بعد أخلاقي وقيمي مرتبطة بالواجب، وقول الحق. ويمكن الإشارة كذلك إلى حقيقة ذات قيمة براجماتية يراد بها المنفعة والمصلحة، وحقيقة ذات قيمة وجودية مرتبطة بالكائن والممكن.

المطلب الأول: الحقيقـــة قيمــة معرفيــة

اعتبر الفلاسفة العقلانيون، كأفلاطون، وأرسطو ، وابن رشد، وديكارت، وغيرهم، أن القيمة الوحيدة للحقيقة هي القيمة المعرفية التي يمكن التوصل إليها عن طريق البرهان والاستدلال والقياس والاستقراء العقلاني. ويعني هذا أن الحقيقة المعرفية هي غاية لذاتها بعيدا عن المنافع والمصالح. وتتسلح هذه المعرفة بكل الآليات الذهنية والفطرية البديهية عند ديكارت. وتعتمد على البرهان والمنطق وآلياته الصورية والشكلية لفهم القضايا والمحمولات التصورية كما عند أرسطو. وترتكز أيضا عند ابن رشد على المقدمات اليقينية للوصول إلى النتائج اليقينية ، مع مراعاة أهداف الشرع الإسلامي ومقاصده الكبرى.
ومن هنا، فللحقيقة قيمة فكرية وعلمية ومعرفية. لذا، يرد عند أفلاطون ، في (محاورة جورجياس) على لسان سقراط، أن الحقيقة اليقينية هي التي نعتمد فيها على الحوار العقلاني البناء والجدل المنطقي والمناظرة الحجاجية الهادفة ، بدون اللجوء إلى استخدام الأكاذيب ، وبلاغة المغالطة، وسفسطة الشك والمراوغة [27]. ويعني هذا أن الحقيقة يجب أن تكون موضوعية ، تقال لذاتها، وتتسم بالحرية والنـزاهة والحياد والاستقلالية أثناء إبداء المواقف والآراء والمعتقدات، دون إكراه أو ضغط أو جبر.

المطلب الثاني: الحقيقـــة قيمـــة أخلاقيــة

تعتبر الحقيقة خاصية أخلاقية وسلوكية حينما تنبني على النـزاهة ، وقول الحق ، والتشبث بالصدق والحرية والحياد ، وتمثل الواجب الأخلاقي في التصريح بالحقيقة، مهما كانت الظروف والضغوطات وقسوة الواقع. فالضمير الأخلاقي والواجب الديني يفرضان معا على الإنسان القول بالحقيقة الصادقة اليقينية من أجل إزالة الزيف والخداع والقناع الواهم عن كل الأفكار والحقائق التي يتفوه بها الإنسان نظريا وعمليا:" إن من يكذب، مهما كانت نيته ومقاصده، يتعين أن يتحمل ويتقبل نتائج وتبعات كذبه...، وأن يؤدي ثمن موقفه، كيفما كانت النتائج والتبعات غير المتوقعة. وذلك، لأن قول الحقيقة واجب يتعين اعتباره بمثابة أساس وقاعدة لكل الواجبات التي يتعين تأسيسها وإقامتها على عقد قانوني، ولأن القانون، إذ ما تسامحنا فيه ولو بأقل استثناء ممكن، فإنه سيصبح قانونا متذبذبا ومبتذلا."
 فلابد إذا للحقيقة أن تستند إلى البرهان والحجاج المنطقي والقياس العقلاني، مع التطبيق الأخلاقي والسلوكي. وذلك، لأن الكذب يضر بالأفراد والمجتمعات، ويساهم في انتشار الظلم والجور، والإساءة إلى الإنسانية جمعاء. ومن ثم، فالكذب:" مضر للغير، إذ الكذب مضر للغير دائما، حتى إن لم يضر إنسانا بعينه، فهو يضر الإنسانية قاطبة، مادام يجرد منبع الحق من الصفة الشرعية...
فمن مقتضيات العقل المقدسة والضرورية إذا أنه ينبغي على الإنسان أن يكون صادقا في تصريحاته وأقواله...ذلك لأننا حين نعطي لأنفسنا الحق في إلزام الغير بالكذب لمصلحتنا ومنفعتنا، فإننا نكشف بذلك عن ادعاء مناقض لكل شرعية قانونية. والواقع أن كل إنسان ليس من حقه فحسب، بل من أوجب واجباته أن يتحلى بالصدق في تصريحاته وأقواله التي لامناص له من الإدلاء بها، حتى وإن أضر صدقه به هو أو بغيره."[28]
وبهذا، يكون كانط من الفلاسفة الذين ربطوا الحقيقة بالعقل العملي أو بالسلوكي الأخلاقي، وقيده أيضا بالواجب القائم على الحرية والضمير القيمي.

المطلب الثالث: الحقيقـــة قيمــة عمليــة

يرى البراجماتيون أو الذرائعيون أو المنفعيون ( كوليام جيمس W. James) 1842-1910) م) ، وجون ديوي (1859-؟) ، أن الحقيقة تكمن في طابعها المنفعي والمصلحي. ويعني هذا أن الحقيقة الصادقة واليقينية هي التي تحقق المنفعة والمصلحة للإنسان، وتحقق المشاريع المستقبلية الهادفة، وتساهم في تنمية الأفراد والرقي بالمجتمعات ، عن طريق تحقيق المردودية والإنتاجية، والارتباط بالحياة العملية والواقعية المفيدة. ومن ثم، فكل الأفكار والحقائق التي لا تحقق مصلحة أو منفعة للإنسان، ولا تفيد المرء في حياته اليومية والعملية ، فهي حقائق زائفة وغير نافعة ولا مجدية إطلاقا. فالحقيقي هو المفيد والنافع والصالح. ولكن قد تختلف المنافع والمصالح من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، وقد تسبب هذه المصالح صراعات شرسة بين الناس. وعلى الرغم من هذا الطابع السلبي للحقائق البراجماتية العملية، فإن المصلحة أو الحقيقة البراجماتية هي حقيقة مستقبلية ، تدفع الإنسان إلى العمل والاجتهاد والإنتاج والرفع من المردودية ، وتحصيل الكفاءات الحقيقية من أجل تحقيق ما يصبو إليه الإنسان من مكانة رفيعة في المجتمع. ومن هنا، فالمجتمع الأمريكي والإنجليزي يأخذان بهذا النوع من الحقيقة المقترنة بالمنفعة والمصلحة المادية أو المعنوية. ويقوم الصحيح عند وليام جيمس بكل بساطة على ماهو مفيد لفكرنا، وينبني الصائب أيضا على ماهو مفيد لسلوكنا."[29]
ومن هنا، يرى البراجماتيون أن الأفكار الحقيقية هي" تلك التي نستطيع أن نستوعبها، ونستطيع أن نصادق على صحتها، ونستطيع أن نعززها بفعل انخراطنا فيها، وأخيرا أن نتحقق منها...
هذه هي الأطروحة التي أدافع عنها- يقول وليام جيمس- حقيقة فكرة ما ليست خاصية متضمنة فيها، وتبقى غير فاعلة.الحقيقة هي حدث يتم إنتاجه من أجل فكرة ما، وتصير هذه الأخيرة حقيقة بفضل بعض الوقائع. إنها تكتسب حقيقتها من خلال العمل الذي تنجزه، أي العمل الذي يقتضي أن تتحقق من نفسها بنفسها، ويكون هدفها ونتيجتها التحقق الذاتي؛ كما أنها تكتسب صلاحيتها بإنجازها لعمل يهدف إلى نتيجة تتمثل في إثبات مصداقيتها."[30]
إذاً، لايرى البراجماتيون في الحقيقة إلا طابعها المادي، ومنحاها المنفعي والمصلحي لتحقيق التنمية والتقدم. بينما يجب أن تكون الحقيقة في جوهرها معرفية وعملية وأخلاقية.

المطلب الرابع: الحقيقة قيمة وجودية

يرى مارتن هايدجر(Heidegger) (1889-1976م)، في كتابه ( ماهية الحقيقة)، أنه من الصعب بمكان الفصل بين الحقيقة واللاحقيقة، فالحقيقة تتحدد من خلال مقابلها اللاحقيقة. ومن ثم، لاتوجد الحقيقة أصلا بمفهوم الصدق، مادامت هذه الحقيقة قائمة على التيه والغلط والوهم. وإذا كان التيه هو بنية داخلية للكينونة، وهو مجال مفتوح لكل ماهو مضاد للحقيقة، وخاصة عالم الخطإ، فإن التيه بهذا المعنى يكون جزءا من حقيقة الإنسان وعلامة على إبداعه وغناه. إن الحقيقة مع هايدجر هي إقامة علاقة وطيدة مع مايحيط بنا ، والاقتراب أكثر من لغة الوجود. ومن ثم، فماهية الحقيقة هي الحرية والتأويل والانكشاف والتيه.وهنا، تأثر واضح بفكر الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه.
وفي هذا الصدد، يقول مارتن هايدجر:"يكون الإنسان في انغلاقه منصرفا إلى ماهو أكثر رواجا في الكائن، ولكن حيث إنه متخارج سلفا، فهو لاينغلق إلا بأن يتخذ الكائن بما هو كذلك مقياسا، إلا أن البشرية في اتخاذها للمقياس تكون منصرفة عن السر ذلك الانصراف المنغلق إلى ماهو رائج، وهذا الانصراف المتخارج عن السر متلازمان.إنهما الشيء ذاته ونفسه، إلا أن ذلك الانصراف- إلى وعن- يستجيب لتقلب خاص في الكينونة بين هذا وذاك، حيث إن الابتعاد المضطرب للإنسان عن السر نحو ماهو رائج، واندفاعه من أمر رائج إلى الآخر دون الالتفات إلى السر، هو التيهان.
الإنسان يتيه، إن الإنسان لايسير إلى التيه، بل إنه يسير دائما فقط في التيه، لأنه، في وجوده المتخارج، منغلق وبذلك يقوم سلفا في التيه، إن التيه الذي يسير الإنسان عبره ليس شيئا يمتد فقط إن جاز التعبير بمحاذاة الإنسان مثل حفرة يقع فيها أحيانا، بل إن التيه ينتمي إلى البنية الداخلية للكينونة التي يلجها الإنسان التاريخي، إن التيه هو ميدان ذلك التقلب الذي ينسى فيه الوجود المتخارج المنغلق ذاته، ويخطىء في تقديرها دائما من جديد بمرونة، في كشف هذا الكائن المفرد أو ذاك يسود اختفاء الكائن المختفي في كليته، بذلك يصبح هذا الكشف باعتباره نسيانا للاختفاء تيها.
التيه هو الماهية المضادة الأساسية للماهية البدئية للحقيقة. وينفتح التيه بصفته المجال المفتوح لكل ماهو مضاد للحقيقة الأساسية، والتيه هو الميدان المفتوح للغلط وأساسه، وليس الغلط غلطة مفردة، بل مملكة (سيادة) تاريخ تلك التشابكات المتداخلة لكل كيفيات التيهان."[31]
ويعني هذا أن الحقيقة هي حرية وانكشاف، ووجود منفتح ومتخارج.. بمعنى أن نترك الحرية عرضة للموجود، فننقل سلوكنا من المجال المغلق إلى المجال المنفتح، ونترك الموجود يستعرض ذاته خارجيا أمام الموجود انكشافا ووجودا وتحررا. كما أن الحقيقة عند هايدجر كشف أو انكشاف وسلب للخفاء. وأن الإنسان ليس كائنا منغلقا منطويا على الكائن، فهو كائن منفتح ومتخارج ومنفتح على الكون. ومن ثم، فاللاحقيقة هي الماهية المضادة للماهية الأصلية للحقيقة.فاللاحقيقة لاتقوم خارج الحقيقة، بل تنتمي إليها، بحيث لايمكن تحديد الحقيقة تحديدا دقيقا إلا إذا قابلنها باللاحقيقة والتيه.
وللتبسيط أكثر، يذهب هيدجر إلى أن الحقيقة نوعا من التيه؛ بسبب عجز الإنسان عن التحكم في مقاييسها وضوابطها. والسبب في ذلك كونه يصر على الكائن المغلق، وينسى الكون المحيط به. وعلى الرغم من كونه يصر على الكائن (السر)، إلا أنه ينفتح على الكون (الرائج). وبذلك، يبدأ التيه عند الإنسان بالانتقال من أمر رائج إلى آخر. وهنا، لا يعني التيه هو ذلك الهدف الذي ينتهي إليه الإنسان المتخارج، بل هو في بداية تحوله من كائن مغلق إلى كائن منفتح متخارج.بمعنى أن التيه لايكون موازيا أو محاذيا للإنسان، بل إنه من صميم بنيته الداخلية لكينونته المبنية على نسيان الوجود المتخارج المنغلق على ذاته، وعدم القدرة على تقديرها تقديرا صحيحا. ومن هنا، ينشأ التيه الذي يعتبر ماهية مضادة للحقيقة، ومجالا مفتوحا للغلط.
ومن جهة أخرى، يرى إريك فايل (Eric Weil) (1904-1972م)، في كتابه (منطق الفلسفة) ، أن مقابل الحقيقة ليس هو الخطإ، وإنما هو العنف الذي يغيب المعنى، ويفكك الاتساق المنطقي والحجاجي لكل خطاب، ويؤثر سلبا في النظام والانسجام. بمعنى أن الحقيقة قيمة وجودية، وهي ضد العنف والتطرف والجوع. ومن ثم، ليست الحقيقة مطابقة الفكر للواقع، بل مطابقة الإنسان للفكر. أي: التطابق مع الخطاب العقلاني المتماسك الذي يلغي العنف لصالح المعنى والتعايش والتفاهم والتسامح. وفي هذا الصدد، يقول إريك فايل :" ليست الحقيقة هي مشكلة الفلسفة، بل وليست حتى مشكلة أمام الفلسفة: فما سميناه بالوعي الصحيح إنما يعني بالضبط أن كل سؤال، يخص إمكانية الفلسفة، وأن كل تأمل منهجي، بخصوص الخطاب في شموليته، هما، في آن معا، سطحيان ولا معنى لهما على وجه الدقة. إن آخر الحقيقة ليس هو الخطأ، وإنما هو العنف، ورفض الحقيقة والمعنى والتماسك، ومن ثم اختيار الفعل السالب أو اللغة المفككة والخطاب التقني الذي يقدم الخدمة دون طرح السؤال لخدمة ماذا، ولزوم الصمت، وهو تعبير عن الشعور الشخصي الذي يريد أن يكون شخصيا...
إن الذات التي يصدر عنها الخطاب أو فاعل الخطاب هو الخطاب نفسه، وليس موضوعه شيئا آخر سوى ذاته كذلك، أما مشكل الحقيقة ، إذا لم يفهم بالمعنى العلمي ولكن بالمعنى الفلسفي، فهو ليس تطابق الفكر مع الواقع، وإنما تطابق الإنسان مع الفكر، أي مع الخطاب المتماسك. سيبدو هذا التعبير فارغا ومتناقضا- فقط- طالما بقينا ضمن الخطاب التقليدي، الخطاب الذي يزعم التفوق على الآخر في الخطاب، أي على الوجود، وينسى أن هذا الوجود لاينكشف إلا في الخطاب، وأن الخطاب لايخرج أبدا عن ذاته...
صحيح أن الفلسفة كلام صادر عن فرد مشخص، لكنه فرد مشخص قرر ـأن يفهم، في وضعية ملموسة، لافقط وضعيته الخاصة ولكن أن يفهم كذلك فهمه لتلك الوضعية.فأنا الذي أعرف أني لست حرا في هذا العلم، وأنه عالم العنف والشقاء والجوع والتنكيل والموت العنيف، لكني أنا كذلك من يريد أن يفكر في هذا العالم تبعا للمعنى الذي يمتلكه، ومن ثم أريد تحقيق معنى العالم بواسطة الخطاب والعقل والعمل المعقول."[32]
ويعني هذا أن الحقيقة عند إريك فايل تتقابل مع العنف، والتفكك، وغياب المعنى، وتشغيل لغة مفككة ، واستخدام خطاب تقني بعيدا عن أي شعور إنساني وشخصي. ومن ثم، فالحقيقة هي التي تنبني على المعنى ، وتماسك الخطاب، ومقاومة العنف والشقاء والجهل والتنكيل والموت. ومن ثم، لايتحقق معنى العالم إلا بوجود الحرية والتسامح ، ووجود خطاب منسجم عقلا وعملا.
وعليه، فالحقيقة - في منظوري الشخصي- متعددة القيم، فلها قيمة معرفية حينما نستعمل النص والعقل لكشف الحقيقة الصادقة واليقينية، ولها قيمة أخلاقية حينما ترتبط بالنزاهة والمصداقية والحق والعدالة والضمير الداخلي والفضيلة ، ولها قيمة وجودية حينما تكون في خدمة الإنسان وإسعاده ذهنيا ووجدانيا وحركيا، ولها قيمة ذرائعية حينما ترتبط بالعمل والمنفعة والإنتاج والابتكار وتنمية المجتمع ماديا ومعنويا.









الخاتمـــــة


نستنتج ، بناء على ما سبق ذكره، أن الحقيقة هي الثابت واليقين والصادق والواقعي، كما أنها مطابقة الفكر لذاته أو للواقع أو لهما معا.
 وإذا كان هناك من يعتبر أن الحقائق يقينية مطلقة مع الفلاسفة العقلانيين (ديكارت، وليبنز، وسبينوزا...)، والفلاسفة التجريبيين (جون لوك، ودافيد هيوم، واستيوارت ميل...)، فإنها نسبية واحتمالية مع إنشتاين.
 وإذا كان هناك من الفلاسفة من استبعد الرأي الشخصي في بناء المعرفة العلمية، وتشييد صرح الحقيقة(جاستون باشلار - مثلا-)، فإن هناك من الفلاسفة من دافع عن هذا الرأي (ديكارت وكانط)، ليكون بدوره سندا للعقل في الحصول على اليقين والحقيقة الصادقة.
ومن جهة أخرى، يذهب الفلاسفة العقلانيون إلى أن الحقيقة لها قيمة معرفية حوارية وبرهانية(سقراط، وأفلاطون، وديكارت...)، بينما يرى كانط أن للحقيقة قيمة أخلاقية. في حين، يقر البراجماتيين، بمافيهم وليم جيمس، وجون ديوي، وشارل بيرس، بحقيقة المنفعة والمصلحة والإنتاج.
وفي رأيي الشخصي، ليست الحقيقة واحدة، بل هي حقائق متنوعة، بيد أن هذه الحقائق ليست يقينية مطلقة، بل هي حقائق نسبية واحتمالية تتغير مع تغير العلم، وتتطور بتطور التكنولوجيا، كما يبدو ذلك جليا عند إنشتاين. ومن ناحية أخرى، يمكن الاعتماد على الرأي الشخصي في مجال العلوم الإنسانية النظرية، مثل: التاريخ، والفلسفة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والآداب، والفنون، والثقافة... ، لكن لايمكن تمثله والأخذ به في مجال العلوم التطبيقية والحقة التي تستلزم الأخذ بالحقائق الرياضية والمنطقية والبرهانية اليقينية والصائبة والصادقة.
 أما عن قيمة الحقيقة، فهي قيمة معرفية وأخلاقية وعملية على حد سواء، ولكن بشرط أن تنفع هذه الحقيقة الكائن البشري ، في مختلف تجلياتها وظواهرها النوعية ، فتحقق له الفضيلة والسعادة الكبرى دنيويا وأخرويا.
وعليه، ستظل الحقيقة ، مهما طال الزمان، واختلف المكان، وتغير الإنسان، حقيقة نسبية ومتغيرة ومتبدلة ، بتحول مظاهرها وأعراضها وأشكالها. ومن ثم، تبقى حقيقة غير مطلقة. بيد أن ثمة حقيقة واحدة هي الحقيقة الربانية التي تظل حقيقة دينية سرمدية خالدة، على أساس أن الله واحد، وأن المخلوقات الدنيوية إلى فناء وزوال وموت محتوم.










ثبت المصادر والمراجع العربية


1- ابن منظور: لسان العرب، الجزء الثالث، دار صبح بيروت، لبنان، وأديسوفت، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2006م.
2- أبو الحسن الجرجاني: التعريفات، الدار التونسية للنشر، تونس، طبعة 1971م.
3- أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ترجمة: حنا خباز، دار القلم، بيروت، لبنان، بدون توثيق للطبعة وبدون تحديد لتاريخها.
4- أفلاطون: الجمهورية، ترجمة: فؤاد زكريا، دار الكتاب العربي، مصر، طبعة 1968م.
5- باسكال: خواطر، تقديم: مارسيل غرسان، النادي الفرنسي للكتاب، طبعة 1963م.
6- ديكارت: مبادئ الفلسفة، ترجمة: عثمان أمين، مكتبة النهضة المصرية، طبعة 1960م.
7- عبد المنعم الحفني: الموسوعة الفلسفية، دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة، تونس، الطبعة الأولى سنة 1992م.
8 - عابد الجابري: بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1986م.
9- الفارابي: كتاب الحروف، تحقيق: محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، لبنان، طبعة 1970م.
10- محمد بديع الكسم: البرهان في الفلسفة، ترجمة جورج صدقني، منشورات وزارة الثقافة، سوريا، دمشق، طبعة 1991م.
11- يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية،مطابع الدجوي، القاهرة، مصر، الطبعة السادسة، 1976م.

Bibliographie :

12- Bachelard (G): la formation de l’esprit scientifique, ED.Vrin 1970.
13- Einstein. (A), et Infeld (L) :L’évolution des idées en physique, champs Flammarion, 2004.
14-Heidegger (M): De l’essence de la vérité, In Question 1 et2, Paris, Gallimard, 1968.
15- Hegel : Encyclopédique des sciences philosophiques, traduction : B.Bourgeois, ED, Vrin, 1979.
16- Kant: Critique de la raison pure, traduction Jules Barni, ED, Flammarion, 1976.
17-Kant : Sur un prétendu droit de mentir par humanité, traduction L.GUILLERMIT VRIN.1984.
18- Leibniz: Nouveaux essais sur l’entendement humain, Flammarion, Paris, France.
19-Nietzche (F) : le livre du philosophe, Traduction : Angèle kremer-Marietti Aubier Flammarion, 1960.
20-R.Blanché:La méthode expérimentale et la philosophie de la physique, ed.Armand Colin 1969.
21- René Descartes : Méditations métaphysiques, Flammarion, paris, 1979, première méditation.
22 - W. James : le pragmatique, traduction E.Le Brun, Edition Flammarion, 1968.




الفهــــــرس


سيـــرة الباحـــث

- جميل حمداوي من مواليد مدينة الناظور المغرب.
- حاصل على دكتوراه الدولة سنة 2001م.
- أستاذ التعليم العالي.
-أديب ومبدع وناقد وباحث، يشتغل ضمن رؤية أكاديمية موسوعية.
- حصل على جائزة مؤسسة المثقف العربي (سيدني/أستراليا) لعام 2011م في النقد والدراسات الأدبية.
- حاصل على جائزة ناجي النعمان الأدبية سنة2014م.
- رئيس الرابطة العربية للقصة القصيرة جدا.
- رئيس المهرجان العربي للقصة القصيرة جدا.
- رئيس الهيئة العربية لنقاد القصة القصيرة جدا.
- رئيس الهيئة العربية لنقاد الكتابة الشذرية ومبدعيها.
- رئيس جمعية الجسور للبحث في الثقافة والفنون.
- رئيس مختبر المسرح الأمازيغي.
- عضو الجمعية العربية لنقاد المسرح.
-عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
- عضو اتحاد كتاب العرب.
-عضو اتحاد كتاب الإنترنت العرب.
-عضو اتحاد كتاب المغرب.
- من منظري فن القصة القصيرة جدا وفن الكتابة الشذرية على الصعيد العربي.
- خبير في البيداغوجيا والسيميولوجيا والثقافة الأمازيغية.
- ترجمت مقالاته إلى اللغة الفرنسية و اللغة الكردية.
- شارك في مهرجانات عربية عدة في كل من: الجزائر، وتونس، ومصر، والأردن، ولبنان، والسعودية، والبحرين، والعراق، والإمارات العربية المتحدة، وسلطنة عمان...
- مستشار في مجموعة من الصحف والمجلات والجرائد والدوريات الوطنية والعربية.
- نشر العديد من المقالات الورقية المحكمة وغير المحكمة التي تربو على الألف. علاوة على عدد كبير من المقالات الرقمية، وأكثر من (114) كتاب في مجالات متنوعة. وبهذا، يكون أكثر إنتاجا في المغرب العربي من حيث الكتب والمقالات.
- ومن أهم كتبه: الشذرات بين النظرية والتطبيق، والقصة القصيرة جدا بين التنظير والتطبيق، والرواية التاريخية، تصورات تربوية جديدة، والإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة، ومجزءات التكوين، ومن سيميوطيقا الذات إلى سيميوطيقا التوتر، والتربية الفنية، ومدخل إلى الأدب السعودي، والإحصاء التربوي، ونظريات النقد الأدبي في مرحلة مابعد الحداثة، ومقومات القصة القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري، وأنواع الممثل في التيارات المسرحية الغربية والعربية، وفي نظرية الرواية: مقاربات جديدة، وأنطولوجيا القصة القصيرة جدا بالمغرب، والقصيدة الكونكريتية، ومن أجل تقنية جديدة لنقد القصة القصيرة جدا ، والسيميولوجيا بين النظرية والتطبيق، والإخراج المسرحي، ومدخل إلى السينوغرافيا المسرحية، والمسرح الأمازيغي، ومسرح الشباب بالمغرب، والمدخل إلى الإخراج المسرحي، ومسرح الطفل بين التأليف والإخراج، ومسرح الأطفال بالمغرب، ونصوص مسرحية، ومدخل إلى السينما المغربية، ومناهج النقد العربي، والجديد في التربية والتعليم، وببليوغرافيا أدب الأطفال بالمغرب، ومدخل إلى الشعر الإسلامي، والمدارس العتيقة بالمغرب، وأدب الأطفال بالمغرب، والقصة القصيرة جدا بالمغرب،والقصة القصيرة جدا عند السعودي علي حسن البطران، وأعلام الثقافة الأمازيغية...
- عنوان الباحث: جميل حمداوي، صندوق البريد1799، الناظور62000، المغرب.
- الهاتف النقال:0672354338
- الهاتف المنزلي:0536333488
- الإيميل:Hamdaouidocteur@gmail.com





كلمات الغلاف الخارجي:

تتخذ الحقيقة ، في الخطابين الفلسفي والإبستمولوجي ، في الفترة الحديثة والمعاصرة ، عدة أوجه وأنماط فكرية، فقد تكون الحقيقة عقلية مع ديكارت - مثلا-، أو حسية مع التجريبيين، كدافيد هيوم، وجون لوك، واستيورات ميل...، أو تكون حقيقة حدسية مع هنري برجسون، أو تكون حقيقة برجماتية مع وليام جيمس... وقد تكون الحقيقة فطرية أو مكتسبة، وقد تكون يقينية مطلقة مع نيوتن - مثلا-، أو نسبية و محتملة مع إنشتاين، أو تكون منعدمة مع فيلسوف النفي نيتشه...
 هذا، وتعتمد الحقيقة على آليات متنوعة وأنساق فلسفية مختلفة ومتباينة المنظور والتصور. والغرض من هذه الدراسة هو إدراك التحولات التي طالت مفهوم الحقيقة في فلسفات الماضي والحاضر، ورصد تحولاتها في الإبستمولوجيات الحديثة والمعاصرة، وإدراك قيمة الحقيقة وجوديا ومعرفيا وقيميا، وتقديرها تقديرا نقديا إيجابيا.



المؤلف: جميل حمداوي
الكتاب: مفهوم الحقيقة في الخطاب الفلسفي
الطبعة الأولى:2015م
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف


[1] - ابن منظور: لسان العرب، الجزء الثالث، دار صبح بيروت، لبنان، وأديسوفت، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2006م، ص:243.
[2] - أبو الحسن الجرجاني: التعريفات، الدار التونسية للنشر،تونس، طبعة 1971م.
[3] -André Lalande:Vocabulaire et critique de la philosophie, Quadrige, PUF, p:1224.
[4] - Hegel : Encyclopédique des sciences philosophiques,traduction : B.Bourgeois, ED, Vrin, 1979, p : 479.
[5] - Bachelard: la formation de  l’esprit scientifique, ED.Vrin 1970, pp: 13-14.
[6] - Leibniz: Nouveaux essais sur l’entendement humain, Flammarion, p; 372.
[7] - Kant: Critique de la raison pure,  traduction  Jules Barni,  ED, Flammarion, 1976, pp: 612-613.
[8] - ديكارت: مبادئ الفلسفة، ترجمة: عثمان أمين، مكتبة النهضة المصرية، طبعة 1960، صص:86-93.
[9] - René Descartes : Méditations métaphysiques, Flammarion, Paris, 1979. Première Méditation.
[10] - باسكال: خواطر، تقديم: مارسيل غرسان، النادي الفرنسي للكتاب، طبعة 1963م، ص:22-23.
[11] - انظر أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ترجمة: حنا خباز، دار القلم، بيروت، لبنان، بدون توثيق للطبعة وبدون تحديد لتاريخها.
[12] - انظر: د.يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية،مطابع الدجوي، القاهرة، مصر،  الطبعة السادسة، 1976م، ،ص:133 ومابعدها.
[13] - انظر: عبد المنعم الحفني: الموسوعة الفلسفية، دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة، تونس، الطبعة الأولى سنة 1992م، ص:518-519.





[14] -E.Kant : Critique de la raison pure, P.V.F, Traduction A.Tresmesaygues, pp : 519-520.
[15]- M.Heidegger: De l’essence de la vérité, In Question 1 et2, Paris, Gallimard, 1968, pp:163-165.
[16] -A.Regarder : Einstein. (A), et Infeld (L) :L’évolution des idées en physique, champs Flammarion, 2004.
[17] -R.Blanché:La méthode expérimentale et la philosophie de la physique, ed.Armand Colin 1969, p:274.
[18] -انظر الحوار الذي أجري مع  ميشيل فوكو، نشر بمجلة L’ARC، عدد:70،سنة  1977 م.
[19] -  انظر الحوار الذي أجري مع  مسشيل فوكو، نشر بمجلة L’ARC، عدد:70،سنة  1977 م.
[20] - محمد بديع الكسم: البرهان في الفلسفة، ترجمة جورج صدقني، منشورات وزارة الثقافة، سوريا، دمشق، طبعة 1991م، ص:51-55.
[21] -  Bachelard: la formation de  l’esprit scientifique, ED.Vrin 1970, pp: 13-14.
[22] - F.Nietzche : le livre du philosophe, Traduction : Angèle kremer-Marietti Aubier Flammarion, 1960, pp : 175-183.
[23] - ابن رشد: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، دراسة وتحقيق: دكتور محمد عمارة، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الثالثة 1999م.
[24] - ابن رشد: فصل المقال، دار المعارف، القاهرة،  مصر، طبعة 1972م، صص:30-31.
[25] د.فوزي حجامد الهيتي: إشكالية الفلسفة في الفكر العربي الإسلامي (ابن رشد نموذجا)، مركز دراسات فلسفة الدين، دار الهادي، بيروت، لبنان،  الطبعة الأولى،  سنة  2005م، ص:171.
[26] - انظر: ابن رشد: تهافت التهافت، ضبط وتقديم وتعليق: الدكتور محمد العريبي، دار الفكر اللبناني، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 1993م.
[27] - انظر: أفلاطون: الجمهورية، ترجمة: فؤاد زكريا، دار الكتاب العربي، مصر، طبعة 1968م.
[28] -kant  : Sur un prétendu droit de mentir par  humanité, traduction L.GUILLERMIT  VRIN.1984, pp.67-73.
[29]  - W. James : le pragmatique, traduction E.Le Brun, Edition Flammarion, 1968, p: 151;
[30]- W. James : le pragmatique, traduction E.Le Brun, Edition Flammarion, 1968, p: 142-144.
[31] - مارت هيدجر: في ماهية الحقيقة، ضمن: كتابات أساسية، الجزء الثاني، ترجمة: إسماعيل المصدق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، عدد:505، طبعة 2003م، ص:72-73.
[32] - Eric weil: Logique de la philosophie, 1976, p:65-67.

تعليقات